عن الفنان

تاريخ الفن الفلسطيني

ارشيف عن تاريخ الفن الفلسطيني

الفنون البصرية الفلسطينية (I)

ينحدر الفنانون الفلسطينيون من أصول مسيحية ومسلمة ودرزية، وحصل بعضهم على تعليم أكاديمي والبعض الآخر علّم نفسه بنفسه. وساهم الفنانون في كلتا الحالتين في تأسيس فن وطني، وغالباً ما أدى قرب أو بعد كل فنان عن المواجهة السياسية إلى تحديد طبيعة مساهمته الفنية ونوعيتها.

عانت الابتكارات الريادية في الفن الفلسطيني، التي شكلها رجال ونساء في أصقاع مختلفة من الكرة الأرضية، من التفكك والانقطاع. وبسبب بعدهم عن بعضهم البعض، كان الفنانون في الفترات المبكرة غير مطّلعين في أغلب الأحيان على الفن الذي ينتجه الفنانون المعاصرون لهم. مع ذلك سعى كل فنان بطريقته الخاصة إلى التعبير عن تجربة المكان، والهوية، والثقافة.

يمكن تقسيم تاريخ الفن الفلسطيني إلى أربع مراحل:                                    

  1. المرحلة الأولى: الأوائل (1795– 1955). نما فيها رسم الايقونات كأحد أقدم التقاليد في صناعة الصورة. وفي مرحلة متأخرة، تعمُّق أساطين هذا الفن في التقنيات الفنية الغربية، إلاّ أن اقتلاع المجتمع الفلسطيني من جذوره أجهض التطوير الطبيعي لفن محلي أصيل.
  2. المرحلة الثانية: الروّاد (1955– 1965). قام روّاد ترعرعوا ما بين اللاجئين بتشكيل فن فلسطيني جديد.
  3. المرحلة الثالثة: المنقبّون (1965– 1995). تشمل الفن الذي أُنتج في المنفى وعلى التراب الوطني. استخدم الفنانون الفلسطينيون في الضفة الغربية  وقطاع غزة المحتّلين سنة 1967 إنتاجهم الفني للتعبير عن الهوية الجمعية– وغالباً ما تعرضوا إلى القمع والتقييد.
  4. المرحلة الرابعة: الزمن الراهن، اتجاهات جديدة (1995– 2016). توسعت الفنون البصرية الفلسطينية المعاصرة إن لعدد الفنانين أو الابتكار والانتشار، بالإضافة إلى تحقيق نقلة نحو استخدام الفن المفاهيمي متعدد الوسائط.

مثّل رسم الأيقونات، الذي يعود إلى التراث البيزنطي، الشكل الرئيسي لفن الرسم لدى الفلسطينيين منذ القرن الثامن عشر. ومن المرجح أن أوائل الفنانين المعروفين بانتمائهم إلى “مدرسة القدس ” كانوا ممن تتلمذوا على أيدي الرهبان اليونانيين الذي خدموا في الأراضي المقدسة. استمر هذا التراث على أيدي الأتباع الفلسطينيين للكنسية الأرثوذكسية الذين نمت موهبتهم جرّاء تعرضهم لأعمال رسّامي الأيقونات الروسيين الذين استقروا في البلاد.

وجدت الأيقونات التي رسمها رسامو مدرسة القدس رواجاً كبيراً، وسعى الحُجّاج لاقتناء الأيقونات الصغيرة كتذكار يحملونه معهم إلى بلدانهم البعيدة. أمّا الأيقونات الأكبر حجماً فغالباً ما كانت تُطلب خصيصاً لتخليد أحد المواقع المقدسة الكثيرة في هذا البلد. انتشرت سمعة رسامي مدرسة القدس في كافة أرجاء لبنان وسوريا في القرن التاسع عشر حيث ما زالت أيقوناتهم تزين أديرة نائية في هذين البلدين.

وعلى الرغم من أن هذه الأيقونات تتبع التراث البيزنطي، إلاّ أن التفاصيل التي طورتها مدرسة القدس وطّنت هذا النوع من الفن: فالعيون اللوزية الشكل والوجوه المدوّرة لأحد القديسين تحيل إلى ملامح البطل الشعبي العربي في المنمنمات الإسلامية والفنّية الدارجة التي ازدهرت في التراث البصري العربي. فتحول سرج حصان مار جرجس (الخضر) على أيدي رسام مقدسي إلى لون قرمزي مُذهّب بنجوم تناسب عمامة سلطان عثماني، بدلاً من أن يكون كما جرت العادة باللون الأحمر. وفي بعض الأحيان كانت تُستخدم الأبجدية اليونانية كعنوان للأيقونة، إلاّ أن كافة الكلمات الأخرى كانت غالباً بالعربية.

ويبدو أن تقليد ربط اسم الرسام بمدينة القدس قد تأسس على أيدي شخص اسمه حنّا القدسي الذي كان يوقّع على لوحاته على النحو التالي: أولاً اسمه – حنا، يتبعه كنية “القدسي”، بمعنى أنه من القدس. وسار الرسامون اللاحقون على خطاه في القرن التاسع عشر فأضافوا كنية “القدسي” لاسمهم بمن فيهم: ميخائيل مهنا القدسي ، يوحنا صليبا القدسي ، نقولا ثيودوروس القدسي ، إسحق نقولا الأورشليمي . وفي بداية القرن العشرين، كان المقدسيان نقولا الصايغ (1863- 1942) وخليل الحلبي (1889– 1964) الرائدين الرئيسيين اللذين، ومن خلال محاكاة معلميهم الروسيين، تمكنا من الانتقال من الرسومات الدينية إلى الرسومات العلمانية. وكان لتأثيرهما الطاغي أثر حاسم في تطور الفن الفلسطيني.

الميلاد، القرن التاسع عشر، Mucem/Yves Inchierman

مع خروج فلسطين من تحت السيطرة العثمانية في العقود الأولى من القرن العشرين، بدأت الحياة الثقافية تقع شيئاً فشيئاً تحت تأثير الهيمنة الغربية. وبنوع خاص، تمَّ اعتماد طريقة الرسم على حوامل اللوحات (وهي ممارسة عمرها قرون في أوروبا) نقلاً عن الرحالة الغربيين الذين كانوا يتدفقون باستمرار على فلسطين. وبالإضافة إلى التحولات التي أضفاها الانتداب البريطاني، بدأ عدد متزايد من الغربيين المرتبطين بالبعثات التبشيرية المسيحية أو بالمستعمرات اليهودية بالسعي للإقامة الدائمة في فلسطين، مستفيدين من التسهيلات التي كان الانتداب يقدمها. واستضاف الكثير من هذه التجمعات رسامين كان من الشائع رؤيتهم وهم يحملون عدتهم المتنقلة ويرسمون في الهواء الطلق.

في الوقت ذاته، قام عدد من الفلسطينيين الذين تعرفوا على الأسلوب الجديد في الرسم بتجريب استخدام الوسائط المستوردة. وبعكس نظرائهم في الدول العربية المجاورة الذين كانوا على صلة بأكاديمية الفنون الجميلة المرموقة في القاهرة منذ سنة 1908 أو في بيروت منذ سنة 1937، فإن القلّة من الفلسطينيين الذين حاولوا الرسم كانوا قد علّموا أنفسهم بأنفسهم. وطور فنانان موهوبان أسلوبيهما الخاصًين باستخدام الأدوات الجديدة لتنفيذ رسوماتهما المعهودة وهما رسام الأيقونات خليل الحلبي (1889– 1964) والحرفي التُراثي في الفن الإسلامي جمال بدران من حيفا (1909- 1999). وباستخدام الصور الفوتوغرافية كنماذج قام الحلبي وبدران برسم مشاهد طبيعية لمدينتيهما الأصليتين.

وبما أن الدخول إلى المعهد الفني المحلي الأول في القدس، معهد بتسلئيل ، الذي أسسه مستوطنون يهود سنة 1906 كان محظوراً على غير اليهود، فإن أغلب الجيل الأصغر من الطلاب الفلسطينيين غير المدربين تعلموا من خلال الملاحظة والتجربة القاسية. من بين هؤلاء الفنانين جمال بيّاري وخليل بدوية وفيصل الطاهر من يافا ، ومبارك سعد (1880 -1964) وداود زلاطيمو (1906- 2001) من القدس.

وتمكنت ثلاث نساء من هذا الجيل من الحصول على تدريب فني محدود وهن: زلفة السعدي (1905 – 1988)، نهيل بشارة (1919 – 1997)، صوفي حلبي (1906 – 1998). تعلمت السعدي على أيدي نقولا الصايغ، أما بشارة فدرست الفن في إيطاليا وحلبي في فرنسا . وعلى خطى معلمها قامت السعدي برسم ايقونات لشخصيات وطنية، أما رسومات بشارة فكانت لمشاهد من شوارع القدس ولأشكال نمطية ترتدي ثياباً تقليدية. وبالمقارنة، قامت حلبي برسم مشاهد طبيعية لسماء عاصفة وبساتين شجر الزيتون التي تزين ريف القدس.

جبل الزيتون، صوفي حلبي، 1954، المتحف الفلسطيني

ومع النمو الجنيني للفن الفلسطيني في المراكز الحضرية،كان العنف يتصاعد ما بين القوات اليهودية والعربية حتى وصل إلى حرب عام 1948 التي بترت البلاد. وفجأة انقطعت أواصر العلاقات ما بين الفنانين المحليين القلائل. ومع تأسيس دولة اسرائيل وجد الفنانون الفلسطينيون أنفسهم يواجهون نفس الاشكاليات التي واجهت شعبهم: إما أصبحوا أقلية في موطنهم الأصلي أو تم اقتيادهم إلى مخيمات للاجئين في البلدان المجاورة. وقد أحبطت هذه الظروف محاولة المواهب الفنية الواعدة الاستمرار في امتهان الفن.

فعلى سبيل المثال قُتل الفنانان بدوية وطاهر في معركة يافا. وبحلول نهاية 1950 توفي البياري في بيته وهو الذي رسم رسومات لا تنسى لأحياء يافا بعد الهجرة وكان فقيراً معدماً. وترك عدد من الفنانين مهنتهم، فالفنان جبرا إبراهيم جبرا من بيت لحم الذي علم نفسه بنفسه (1920 – 1994) ، وغسان كنفاني من عكا (1936-1973) استمرا في الرسم حتى بعد أن استقر جبرا في العراق وكنفاني في لبنان. إلا أن كليهما اعتبرا الكتابة مهنتهما الأساسية.