الزمن الراهن: اتجاهات جديدة (1995-2016)
زدهر حقل الفنون البصرية الفلسطيني منذ أواخر تسعينيات القرن العشرين، من حيث التجديد الإبداعي، وعدد الفنانين، وحضورهم العام المتزايد. وعرف هذا المشهد تحولاً نحو ممارسة الفن المفاهيمي المتعدد الوسائط، إذ غالباً ما يمتنع الفنانون الفلسطينيون المعاصرون عن الاستعانة بعناصر بصرية رومنسية، مناضلة أو فولكلورية لخوض غمار الرواية الوطنية الكبرى، وبدل ذلك ينتجون أعمالاً فنية تسبر تجليات الاحتلال والمنفى بجماليات مختزلة إلى حدها الأدنى، وذلك انطلاقا من ذاتيتهم الخاصة.
تحولات مادية ومؤسساتية
يصف البعض زيادة الفرص التي يحظى بها الفنانون الفلسطينيون في المشهد البصري المعاصر بـ“العصر الذهبي”. فقد تحوّل حقل الفنون البصرية إلى أكثر مجالات الثقافة الفلسطينية حيوية، نظراً إلى موارده، وتجديده وتجدده. ويرافق هذا الازدهار نسيج مؤسساتي مهني مؤلف من مسابقات فنية، ومراكز فنية، ومهرجانات، وقاعات عرض تجارية، ومزادات، وفرص لم يسبق لها مثيل للتربية الفنية المنتظمة مع تأسيس كليات فنون جديدة بجامعات النجاح والقدس وبيرزيت ، وكلية دار الكلمة في بيت لحم ، إضافة إلى الأكاديمية الدولية للفنون – فلسطين فيالبيرة .
كما تحظى الفنون البصرية الفلسطينية ببعد دولي بفضل سفر الفنانين للدراسة والعرض في الخارج ثم العودة إلى الوطن. بينما يدخل البلاد فنانو الشتات من حملة الجوازات الغربية من أجل العمل وإبداع أعمال بمحتوى فلسطيني.
ويتميز حقل الفنون البصرية بحضور جديد ووازن للنساء. فمن أهم الفنانين تقديراً داخلياً وخارجياً نساء أمثال منى حاطوم (1952- )، وإميلي جاسر (1970- )، وأحلام الشبلي (1970-). كما أن النساء يشكلن غالبية طلبة الفنون بين فلسطينيي 1948.
وسائط وتقنيات جديدة
يعني التحول في الفن المعاصر نحو الفن المفاهيمي، النظر إلى الفن كتجسيد لفكرة أو لمفهوم قبل الشكل النهائي للعمل. وقد تجلى هذا التحول في نمو استعمال الوسائط الرقمية والإلكترونية وإقامة معارض خاصة في موقع مخصص. ومنذ أواخر التسعينيات من القرن العشرين، أفسح الرسم والطباعة والخزف والملصقات والحفر المجال أمام تطور فن التصوير الفوتوغرافي والأداء والفيديو والصوتيات وأمام تقديم أبحاث وتدخلات نقدية في مجالات سياسات الحيز وفي العمارة. وتناول هذه الأساليب والتوجهات الجديدة الفنانون الشباب وأسلافهم، على حد سواء.
أما فن الرسم بعينه، فقد تفرّع إلى ثلاثة اتجاهات: الواقعية المفرطة لـ ميخائيل حلّاق (1975- )، وأمجد غنّام (1981- )، وبشار خلف (1991- )؛ التعبيرية لـ أسامة سعيد (1957- )، ومحمد صالح خليل (1960-)، وإبراهيم نوباني (1961- )؛ المقاربات المفاهيمية لـ أسد عزّي (1955- )، وجعفر الخالدي (1964- )، وإيناس ياسين (1973- )، وهاني زعرب (1976- )، وضرار بكري (1982- ).
ظهر فن التصوير الفوتوغرافي كلون فني أساسي، يجمع بين ممارسة التصوير بالأسلوب الوثائقي، في أعمال رلى حلواني (1964- ) عن القرى المدمرة والحواجز، على سبيل المثال، وبين التركيز على الجماليات الشكلية في عمل ستيف سابيلا (1975-) عن العناصر المعمارية في المدن، على سبيل المثال أيضاً. ويعكس فن الفيديو بأمانة الحال الفلسطينية المعاصرة المتجلية في التكرار والتواتر والانتظار. فقد أصبح فن الفيديو العمل المفضل لدى العديد من الفنانين كوسيلة لكسر الحصار والنفاذ منه لأعمالهم الفنية. ويتضمن الفيديو الجانب الوثائقي والأداء، من خلال سرديات مفككة أو بتسلسل بصري، كما هو الحال في أعمال جمانة إميل عبود (1971-)، وجمانة مناع (1987- )، على سبيل المثال.
ويجري الفن الأدائي داخل قاعات العرض والمسارح، ويتم توثيقه بالتصوير والفيديو، وهو ما نجده في أعمال منار الزعبي (1970- ) وحنان أبو حسين (1972- ). كما تعقد بعض الأداءات في الفضاء العام، وتجمع بين فن التجهيز والتصميم، وهو الأمر الذي يظهر في عمل ديما حوراني (1985- ).
المناهج والموضوعات الرئيسية
تطغى ثلاثة مناهج على الفنون الفلسطينية المعاصرة: الفكاهة السوداء العبثية، والأرشفة والتوثيق، والأنسنة. وقد كانت السخرية أو الفكاهة السوداء مألوفة في الأدب الفلسطيني، ولكنها امتدت الآن إلى السينما والفنون البصرية. وتتيح الفكاهة تضاد وتجاور المأساوي والعبثي في الوضع الفلسطيني المعاصر، حتى أن مجمل أعمال بعض الفنانين يقتصر على السخرية، كما هي الحال في أعمال خليل رباح (1961- ) وشريف واكد (1964- ).
والأسلوب الفني الآخر الذي يحظى برواج، هو الأسلوب التوثيقي- الأرشيفي الذي يوثّق مظاهر مدمرة من الحياة الفلسطينية: المشهد الطبيعي، الحياة العامة، الممتلكات. ومن أهم ممارسي هذا الأسلوب الفنانة إميلي جاسر، خصوصا في عملها “من الكتب” الذي يتناول المكتبات الفلسطينية المنهوبة سنة 1948.
أما الأنسنة، فهي مقاربة يركز فيها العديد من الفنانين على إظهار الإنسانية العادية للفلسطينيين، ودور الاحتلال والمنفى في الحؤول دون تحقيق إمكانياتهم الكامنة وممارسة حياتهم اليومية، وهذا يظهر في أعمال محمد أبو سل (1976- ) وعبد الرحمن قطناني (1983- ).
وغالبا ما يجسّد الفن الفلسطيني المعاصر الزمن الحاضر بأسلوب غير دراماتيكي، مع تمثيل المستقبل على نمط غرائبي مخيف. وتظهر وتجسد هذه الأعمال سراب “السلام” وعبثية المستقبل، في أعمال لاريسا صنصور (1973- ) ووفاء حوراني (1979- ).
كما تحل الهوية الفردية القلقة محل الهوية الجمعية المتجذّرة في التراث أو في النضال الشعبي. فالهوية الوطنية تحدد الآن من خلال هوية أشخاص مشبعة بالريبة، مثل الهوية العربية الفلسطينية في إسرائيل أو في المنفى، وهذا الموضوع يظهر في أعمال أشرف فواخري (1974- ) وتيسير بطنيجي (1966- ).
من جهة أخرى، أدى تنامي عدد الفنانات إلى أن مسلمات توزيع أدوار المرأة والرجل أصبحت موضع تساؤل وقابلة للطعن فيها، مع ربطها بالشأن الوطني، كما يظهر في أعمال رائدة سعادة (1977- ) التي تتناول الزواج، وجدار الفصل.
فضلاً عن ذلك، طرأ تحولٌ في أسلوب تناول مواضيع اعتيادية مثل: الشهيد، والمشهد الطبيعي، والشتات، والماضي، والذاكرة. فتناول ذاكرة المكان يتم عبر التجربة الشخصية، وهو ما يظهر في مخطط العودة إلى كفر برعم لـ حنّا فرح (1960- )، في حين يتم التطرق إلى الماضي بأسلوب نقدي، مثل أعمال عامر الشوملي (1981- ).
أما العنصر الدائم الحضور في الفن الفلسطيني البصري المعاصر فهو المشهد الطبيعي الذي يحاول الفنانون من خلاله استعادة تملّك الفضاء والحيّز، بينما يضمحل نفاذ الفلسطينيين على محيطهم وسيطرتهم عليه. ويمثّل المشهد الطبيعي مدخلا للتطرق إلى موضوعات متصلة مثل النكبة ، والخرائط، والعمارة، والحيز والفضاء، وتقييد الحركة، والحواجز، وجدار الفصل، وتدمير إسرائيل للأراضي الزراعية، وتفتيت الأرض، والتمدن الليبيرالي- الجديد [النيوليبرالي]، كما في أعمال آيرين أنسطاس (1968- )، ورنا بشارة (1971- )، وحازم حرب (1980- )، وخالد جرّار (1976- )، وروان أبو رحمة (1983-)، وباسل عباس (1983- ). وبينما كان المشهد الطبيعي في عقود سابقة مجسداً بمثالية في لوحات طوباوية البساطة، فإنه يمثَل بمعظمه الآن عبر التصوير الفوتوغرافي، كحيِّز شوّهه الاحتلال والمستوطنات، مع جدران مغطاة بالغرافيتي، وبيّارات مدمرة، وحارات في خراب، وهو ما تظهره أعمال ليلى الشوّا (1940-2022)، وسهى شومان (1944- )، وسامي بخاري (1964- )، ورأفت الأسعد (1974- ).