المنقِّبون (1965-1995)
نزح عدد كبير من الفلسطينيين إبان حرب عام 1967 ورزحت مجتمعات كاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي. وعلى مدار العقود الثلاثة التي تلت الحرب، وعلى الرغم من النضال المتواصل من أجل تقرير المصير، لم تتحقق الطموحات الوطنية الفلسطينية. أما الفنانون الفلسطينيون، فقد سعوا، أينما عاشوا، إلى ربط معاناتهم الشخصية بالحلم الجماعي لاستعادة الوطن.
غالباً، بقي الفنانون الفلسطينيون الذين نشأوا في البلدان العربية على هامش الثقافة المحلية. إلا أنه وبعد تأسيس الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين سنة 1969، انتقلت معارض جماعية لفنانين فلسطينيين عبر العالم، فشاهد الجمهور العربي والأجنبي الصور المطبوعة بأسلوب الطباعة الحريرية (silkscreen) للفنانة ليلى الشوّا (1940-2022)، والنقوش المزخرفة لـ عبد الرحمن المزيّن (1943- )، واللوحات التجريبية لـ عماد عبد الوهاب (1950- ) التي مثّلت كلها التوجهات المبتكرة الريادية في هذا المجال.
كانت الأردن ملاذاً لعدة موجات متعاقبة من اللاجئين الفلسطينيين واستقر فيها عدد من الفنانين الفلسطينيين الذين ساهمت أعمالهم في رسم ملامح الفن الأردني مثل: فاطمة المحبّ (1931- )، وأحمد نعواش (1934-2017)، وعفاف عرفات (1938- )، وسامية الزرو (1940- )، ومحمود طه (1942-2017)، وسهى شومان (1944- )، وعزيز عمورة (1945-2018)، وفؤاد ميمي (1949- ).
أمّا في الضفة الغربية وقطاع غزة اللتين وقعتا تحت الحكم العسكري، فقد وجد الفلسطينيون أنفسهم منعزلين في غيتو ثقافي. وعلى الرغم من انقطاعهم عن العالم العربي، فقد برز جيل جديد من الفنانين ممن تلقوا أو لم يتلقوا تعليمهم في مجال الفنون: كريم دبّاح (1937-2021)، وتيسير شرف (1937- 2001)، ونبيل عناني (1943- )، وكامل المغنّي (1944-2008)، وفيرا تماري (1945- )، وفتحي غبن (1947- )، وعصام بدر (1948 – 2003)، وسليمان منصور (1948- )، وتيسير بركات (1959- )، وفاتن طوباسي (1959- )، وسميرة بدران (1959- )، ويوسف دويك (1963- ). وفي سنة 1973 أسست هذه المجموعة من الفنانين رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينيين ، وكانت المعارض التي نظمتها أول تجليات الفن الفلسطيني على التراب الوطني.
مثّلت هذه المعارض شكلاً جديداً من المقاومة السياسية الفلسطينية تحت الاحتلال. بفضل تنظيمها في مدارس ومباني بلدية ومكتبات عامة، وكان لهذه المعارض أثر تحويلي إذ أصبحت بمثابة فعاليات مجتمعية تجذب أعداداً متزايدة من الزوار من كل قطاعات المجتمع. ولأن الفن الفلسطيني كان تعبيراً عن الهوية الجماعية، بدأت السلطات الإسرائيلية بفرض الرقابة العسكرية على كل المعارض وحظرت استخدام الألوان الأربعة للعلم الفلسطيني مع بعضها البعض، وتم إجهاض محاولة تأسيس غاليري محلي. وكانت المعارض غير المرخصة تتعرض لاقتحام قوات الجيش التي كانت تأمر الجمهور بمغادرة المكان وتصادر اللوحات. وفي كثير من الأحيان، كان الفنانون الفلسطينيون يتعرضون للاستجواب والاعتقال. غير أنه، مع كل ازدياد في شراسة الإجراءات العسكرية، كان يقوى رصيد الفنانين السياسي. ومع الوقت أثارت محنتهم مشاعر الاهتمام والاحتجاج لدى بعض الإسرائيليين وعدد كبير من المجموعات الدولية غير الحكومية.
كان فتحي غبن، الذي لم يتلقَّ أي تدريب فني، نجماً سياسياً في محيطه بفضل رسوماته. ولد غبن في غزة، وبدأ بالرسم كتعبير عفوي مرافق لمشاركته اليومية في الأنشطة المجتمعية الاحتجاجية على حالة الحصار. تسبب فنه السردي المليء بالرموز الثقافية الشعبية باعتقاله المتكرر، وأدت لوحته التي جسدت ابن أخيه ذا السبعة أعوام بعد استشهاده بالرصاص خلال تظاهرة، إلى اعتقال غبن لمدة ستة أشهر لأنه رسم الطفل وهو يرتدي ألوان العلم الفلسطيني المحظورة. ولدى إطلاق سراحه قام غبن برسم تظاهرة شعبية تعتليها سماء مؤطرة بيدين مرفوعتين تتدلى منها أغلال مكسورة، وما بين اليدين المرفوعتين يركض حصان أبيض ملفوف بالعلم في السماء. ومن بين وجوه المتظاهرين المصغرة نجد وجه غبن نفسه.
وبينما يمكن اعتبار أعمال غبن فناً شعبياً، فإن أعمال تيسير بركات- وهو أيضاً من غزة- تعبّر عن سردية شخصية. ولد بركات وترعرع في مخيم للاجئين وتابع دراسته في الإسكندرية . يرسم بركات اشكالاً ضبابية بظلال ألوان الباستل تستحضر شبكة من التداعيات المجازية: ديك يعلن طلوع الصباح لسماء بنفسجية؛ شمس تتحول إلى كرة ذهبية يلعب بها رفاق المخيم؛ حمامات صغيرة تنام في عشها؛ طفل حافي القدمين يطير في الغسق فوق أرض المخيم الجرداء.
لعبت الآثار المدمرة للاحتلال الإسرائيلي وسياسات القمع المنهجية دوراً مركزياً في أعمال امرأة فلسطينية تلقت تعليمها الفني في الإسكندرية وفلورنسا قبل أن تستقر في برشلونة . ولدت سميرة بدران في طرابلس حيث توجّه والدها، الحرفي الفنان جمال بدران ، ليعلّم الحرف الاسلامية. بعد سنتين من عودة العائلة إلى الضفة الغربية اجتاحت اسرائيل المنطقة. تستوحي بدران رسوماتها من رؤى مشؤومة، تنتشر فيها ألسن اللهب الملتفة بألوان وارفة. وتمتلئ لوحات بدران بقطع آلات غريبة، وتروس فولاذية ملتوية، ومسامير، وبراميل، ودواليب مقيّدة. ويتناثر الحطام المتشظي وآثار الدمار ما بين الأطراف البشرية المقطوعة. أما الأحياء الوحيدون في هذه اللوحات فهم إمّا مكممي الأفواه أو مقيدين أو مسجونين في قفص.
ولد سليمان منصور في بيرزيت ، وكان الفنان الفلسطيني الوحيد المعروف الذي درس في بتسلئيل . تتأرجح أعمال منصور ما بين الواقعية التصويرية والأسلوب شبه التجريدي، وفي كلا الحالتين فإن أعماله مليئة بالصور المجازية. على سبيل المثال، في أحد أعماله الرمزية، يتدفق قوس قزح من خلال قضبان نافذة السجن، وحين يصل إلى داخل الزنزانة يتحول إلى ألوان العلم الفلسطيني. تستكشف الأعمال التجريدية لسليمان منصور قوام اللون وملمس الأرض. ويتضح من عناوين لوحاته أنها تمثل آثار قرى الأجداد التي دُمّرت ومُحيت أسماؤها من الخرائط الاسرائيلية.
برز أيضا جيل جديد من الفنانين من بين المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل: عبد عابدي (1942- )؛ وليد أبو شقرة (1946-2019)؛ خليل ريّان (1946- )؛ أسد عزّي (1954- )؛ داوود الحايك (1955- )؛ كميل ضو (1956- )؛ عاصم أبو شقرة (1961- 1990)؛ بشير مخّول (1963- )؛ إبراهيم نوباني (1964- ).
ولد عبد عابدي في حيفا حيث عمل حداداً ورساماً لرسومات تزيينية لمنشورات عربية في إسرائيل. بعد إنهائه الدراسة في دريسدن ، أصبح عابدي أول فلسطيني يقوم ببناء مجسمات فنية على ترابه الوطني. تمجد مجسماته الرمزية في الجليل صمود ومقاومة الإنسان ومن بينها جدارية سردية تصور صمود وتصدي النبي إيليا ، ونصب برونزي يخلد ذكرى ستة فلسطينيين استشهدوا بالرصاص في يوم الأرض .
بالمقارنة مع ابن المدينة عابدي، فإن وليد أبو شقرة– المولود في أم الفحم وخريج فنون من لندن – كان مهووساً بإرثه الريفي. تصوّر نقوشه مشاهد طبيعية مسكونة بغياب البشر ونزوح أهلها الأصليين: شجرة زيتون مقتلَعة قابعة تحت الشمس؛ حقل محروث تحت ضوء القمر؛ شجيرات؛ أشواك، وأزهار برية تنمو من شقوق ما تبقّى من البيوت المهجورة؛ شجر صبار كان في وقت مضى يحدّد حدود القرى، باقٍ حتى بعد أن تم محو تلك القرى عن الوجود.
وفي حين كان أبو شقرة يعبر عن علاقته الوثيقة بالأرض، دأب فنانون تشكيليون فلسطينيون في المنفى على تكوين فن تجريدي يمثل بعدهم عنها. من بين هؤلاء الفنانين: جمانة الحسيني (1932-2018)؛ سامية حلبي (1936- )؛ سري خوري (1941 – 1998)؛ فلاديمير تماري (1942 – 2017)؛ كمال بلّاطة ( 1942– 2019 )؛ منيرة نسيبة (1942- )؛ سمير سلامة (1944-2018)؛ ناصر السومي (1948- )؛ نبيل شحادة (1951- ).
على الرغم من ندرة الاتصال بين حلبي، وخوري، وتماري وبلّاطة، إلاّ أنهم يتقاسمون شواغل بصرية تذكّر بتجربة المنفى التي يتشاركون فيها. أربعتهم ولدوا في القدس . بعد سقوط فلسطين، هاجر خوري وحلبي إلى الولايات المتحدة مع عائلاتهما، واستقرت حلبي في نيويورك بينما استقر خوري في ميشيغان . بعد ضم القدس استقر تماري في طوكيو وعاش بلاطة متنقلاً ما بين الولايات المتحدة، وفرنسا ، وألمانيا .
استكشفت أعمال حلبي التجريدية الأولى التأثير البصري المتبادل ما بين التوريات المكانية. قد تتكون لوحاتها من دوائر حلزونية أو حزم من الخطوط القُطرية المستقيمة. تُستخدَم الألوان على شكل سطور خطيّة أحادية اللون بتداخل تدريجي انتقالي دقيق، وتُنسَج مناطق التباين بين الألوان الفاتحة والغامقة بإسهاب، وتلتقي التموجات من كل طرف قصي وتتلاشى تدريجياُ داخل بعضها البعض. تتحدى أعمالها مفهوم النسق والاستمرارية.
في المقابل، تستكشف أعمال سري خوري الانقطاع، وتوحي بحركة معرقلَة داخل فراغ أثيري حيث تنفصل أشكال هندسية بشكل فجائي أو تطفو بعيداً خارج حافّة الصورة. تشير هذه الأشكال غالباً إلى أجزاء مبعثرة من اشكال مألوفة: لمحة من سماء؛ نافذة؛ طائر يطير؛ طريق سريع أملس؛ زاوية غامضة. أحياناً ما يطرح دمج خوري للأشكال المجرّدة وتلك المألوفة المتشظّية حالة من الحيوية المعلّقة، غالباً ما تحيلنا إلى ممر ما بين المساحة الداخلية والخارجية، ما بين حدود الأسر والانعتاق.
أما ألوان الباستل المائية التي يستخدمها تماري، فتعرض مستويات لزجة من الشفافيات البرّاقة. وتذكرنا الأشكال غير المتبلورة، التي تتلاشى في خلفية غالباً ما تتكون من ألوان مبعثرة بشكل ارتجالي، بالأنماط الاعتباطية للجدران القديمة. ترشح ألوان تماري الموشورية من خلال أشكال ذات زوايا وتتقد بتباينات صارخة وكأننا في مكان مقدّس ننظر إلى العالم الخارجي من خلال الزجاج الملون. يتم تشكيل مساحات محبوكة من خلال ضربات قصيرة ورقيقة بفرشاة الألوان تشبه الأسلوب المقولب والمتكلف لرسامي الأيقونات البيزنطيين. إن أعمال تماري التجريدية تحيلنا إلى المشهد الطبيعي الذي غالبا ما يتم تمثيله على شكل صليب مما يحيلنا في الوقت نفسه إلى فكرة الجلجلة وبيته الشخصي الأصلي.
تتلمذ بلاطة في وقت مبكر على أيدي رسام الايقونات المقدسي خليل الحلبي الذي كان له أثر كبير في تطوره الشخصي. وبقي لسنوات منبهراً بالأشكال الهندسية المربعة للخط العربي. قام بكتابة أجزاء نصيّة من مصادر مسيحية وإسلامية بألوان شفّافة وبأشكال ذات زوايا، وتصاميم دائرية هندسية في داخلها أنماط متكررة لكلمات عربية بحيث تستبدل القراءة بالرؤية والرؤية بالقراءة. إلاّ أن هذه الحروفية اختفت من لوحاته الإكريليكية في مرحلة لاحقة. أما أشكاله الهندسية التي ما زالت مبنية على المربعات، فإنها تتولّد من خلال مضاعفة الأشكال ذات الأضلاع الأربعة وتجزئتها، في حين يتخطى الاجتياز البصري للحدود بين ما هو داخل وما هو خارج التبادلية البسيطة. وبفضل الهندسة– التي يعني أصلها اليوناني “قياس الأرض”– يختط الفنان دون هوادة، من منفاه الذي يبعد مسافة تبلغ نصف العالم عن القدس، درب الانتقال من الذاكرة إلى الخيال.
من مدرسة القدس لرسامي الايقونات إلى الرسامين المقدسيين في المنفى، هناك جسور تربط بين الأعمال الفنية الفلسطينية وتتخطّى المسافات التي تفصل ما بين الفنانين. وعلى الرغم من الانقطاعات، استمر الفن الفلسطيني في أماكن عدّة في نسج خيوط ذاكرة الفنان للمكان مع الصور الملهمة المستقاة من الثقافة المجتمعية.
ملاحظة: هذا النص كتبه كمال بلاطة بعنوان “الفن” (Art)، في “موسوعة الفلسطينيين” (Encyclopedia of the Palestinians) التي حررها فيليب مطر (بالانكليزية)، والصادرة في نيويورك، عن دار “Facts On File, Inc.”، طبعة 2000- 2005، ص 81– 91.