الرواد (1955-1965)
مرّ عقد كامل على سقوط فلسطين قبل أن تظهر الإشارات الأولى لعودة الفلسطينيين للرسم. ومثّل الرسامون القلائل الذي وجدوا أنفسهم لاجئين في بلدان عربية مجاورة التوجهات الرئيسية للفن الفلسطيني آنذاك. وبعكس أسلافهم، نجح أغلبهم في متابعة الدراسة أو التدريب الفني، وتمكنوا من تطوير أسلوبهم الشخصي. وسعى عدد من الفنانين، متأثرين بقساوة تجربة المنفى، إلى استعادة ذكرى المكان، بينما حاول آخرون أن يعالجوا التراث البصري للثقافة الفلسطينية. وقد حظي عدد منهم بالتقدير باعتبارهم مساهمين رئيسيين في حركة الفن العربي المعاصر الأوسع، حتى أن عدداً من المتاحف في المنطقة والعالم سعى إلى الحصول على أعمالهم.
تميز العقدان الأولان بعد سقوط فلسطين بتغيرات سياسية وثقافية جذرية في العالم العربي، وتمتّعت الفنون البصرية بحضور غير مسبوق على الساحة الثقافية التي سيطرت عليها تقليدياً الفنون الشفاهية. وشهدت مدينتنا بغداد والقاهرة طفرة وانتعاشاً في رعاية الدولة للفنانين، إلاّ أن بيروت هي التي أصبحت مركز المنطقة الفني، المتنوع في عالميته، ومن هناك انطلق أهم الفنانين الفلسطينيين اللاجئين.
كان بول غيراغوسيان (1926- 1993) أول الفنانين الذين لفتوا انتباه النقّاد في بيروت. ولد غيراغوسيان في القدس لعازف كمان أرمني كفيف، ولدى بلوغه ثلاث سنوات من العمر تولّت رعايته المؤسسات التبشيرية الكاثوليكية. وقد أثّرت تجربة الانعزال التي عاشها، كونه تربّى على يد الرهبان وخدم كمتدرب لدى رسامي الأيقونات الإيطاليين، تأثيراً كبيراً في فن غيراغوسيان. بعد سقوط فلسطين استقر في بيروت حيث ذاع صيته.
عكست أعمال غيراغوسيان صراعاً لا يلين من أجل استحضار مشاهد من سنواته الأولى في القدس. فمن رسوماته الأولى التي صورت العلاقات البشرية الحميمة إلى رسوماته التجريدية الأخيرة التي اختصرت تفاصيل الجسد في ضربات حادة بطلاء كثيف، تنبثق أشكال غيراغوسيان من مخزون فن الأيقونات المسيحية. وتذكرنا سلسلة رسوماته التي تصور أشكالاً واقفة بالأيقونات التي تمجّد رسل المسيح. وتعبّر شخصيات غيراغوسيان المتكوِّمة إلى بعضها البعض عن محاولة الفنان الدمج ما بين هويته الأرمنية وتجربته الفلسطينية. وقد استعار موضوعات الهجرة والشتات المتكررة في أعماله من مصادر في الكتاب المقدس، وذلك لكي يعبّر عن عالمه الشخصي، عالم يلتقي فيه الحرمان الفلسطيني بالبؤس الأرمني.
قام فنانان فلسطينيان آخران عاشا في بيروت أيضاً بالغوص في ذكرياتهما الشخصية من أجل إعادة بناء العالم الذي فقداه وهما: جوليانا سيرافيم (1934– 2005) وإبراهيم غنّام (1931– 1984). ولدت سيرافيم في يافا وكانت تبلغ أربعة عشر عاماً من العمر حين هربت على متن قارب مع عائلتها إلى صيدا ، ومن ثم استقرت في بيروت حيث عملت في غوث اللاجئين وتابعت مساقات فنية مع الرسام اللبناني جان خليفة . بعد سنوات عدّة حصلت سيرافيم على منح للدراسة في مدريد ، وفلورنسا ، وباريس .
تمتلئ لوحات سيرافيم بعناصر موحية من الخيال، وتضج بحدائق متخيّلة تتمايل فيها البراعم المنحوتة والبتلات البرية إلى جانب أصداف البحر وكيانات مجنّحة. تكشف شفافية مشاهدها الطبيعية الأسطورية أشكالاً حسّية تنم عن جنّة شخصية. تستحضر سيرافيم في لوحاتها طفولة مفقودة استمتعت فيها بالحياة ما بين الشاطئ وبساتين البرتقال، فنرى أحياناً أجزاء من الطبيعة تلمع على الشاطئ ومن زاوية أخرى تبدو وكأنها ملامح جسد امرأة. درجت العادة على تسمية يافا بـ “عروس البحر”، وفي لوحات سيرافيم تسيطر ملامح العروس الحالمة على المشهد الطبيعي في تلميح جريء إلى وجه الفنانة.
وبعكس غيراغوسيان وسيرافيم، وكلاهما لاجئان من مراكز حضرية، ولد إبراهيم غنّام ونشأ في قرية ساحلية اسمها ياجور . بعد أن وصل إلى بيروت ومخيم تل الزعتر للاجئين وأصبح مقعداً جراء إصابته بشلل الأطفال، تابع غنّام هواية الطفولة. وبفضل ممرضة في وكالة غوث اللاجئين (الأونروا ) وفّرت له مستلزمات الرسم، تمكن غنّام من تصوير مشاهد متوقّدة للطبيعة الريفية التي لمستها قدماه الحافيتان في زمن ما.
رسم غنّام سرداً رائعاً للحياة في ياجور. معتمداً على إعاشة مقنّنة، ومأكولات معلّبة في غرفة صغيرة تطل على المجاري المفتوحة. ورسم غنّام حقولاً ذهبية جاهزة للحصاد، وبساتين عامرة بالبرتقال، وفلاحين جذلين يفلحون الأرض. وحرص على الرسم بنفس الدقة المستخدمة في المنمنمات الإسلامية، بحيث تسترعي كافة التفاصيل الاهتمام بالدرجة ذاتها. وبذل غنّام، من خلال رؤيته البسيطة، جهداً جبّاراً للحفاظ على حكايات إحدى القرى التي دُمّرت ما بعد الهجرة الفلسطينية لكي تتعرف عليها الأجيال التي ستولد في المخيم.
ثمّة فنانان من جيل غنّام كانا غريبين عن الثقافة السائدة في بيئتهما المباشرة، هما عبد الله القرّا (1936- ) وإبراهيم هزيمة (1933- ). وبينما تطورت أعمال القرّا في وطنه، تشكلت أعمال هزيمة في المنفى.
ولد القرّا في دالية الكرمل ، وتعرف إلى فن الرسم حين كان يعمل بستانياً في تجمع للفنانين الإسرائيليين في قرية عين حوض التي تم تحويلها إلى قرية للفنانين بعد طرد القرويين الفلسطينيين منها. وتحت رعاية فنانين إسرائيليين كبار حصل القرّا على منح لدراسة الفن في باريس ونيويورك .
يعبّر فن القرّا، الذي عاش على الحدود مع دوائر الفن اليهودية، عن صراعه من أجل هويته الدرزية. كانت أعماله الأولى عبارة عن رسومات ارتجالية بالحبر تذكرنا فيها الطيور الرقيقة والأنماط المنمنمة بالأشكال الزخرفية التي تزين الألبسة الفلسطينية الدرزية. وبعد سنوات، صورت لوحاته الكبيرة التي شكّلها بضربات غليظة ومتشابكة بفرشاة الرسم، جوارح تلتهم فريسة ملطخة بالدماء ورجل متخفٍ تحت قناع.
وفي عالم لا يقل غربة، رسم إبراهيم هزيمة، وهو من مواليد عكا ، صوراً تُمجّد جذوره الثقافية. كان هزيمة يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً حين اضطر للهروب بالقارب إلى اللاذقية ، وعمل لسنوات كعامل رصيف في مرفأ تلك المدينة الساحلية السورية لإعالة عائلته اللاجئة. وبفضل موهبته في الرسم، حصل على منحة للدراسة في لايبزيغ حيث قرر أن يبقى ويعمل على صقل فنه قبل أن يستقر في نهاية المطاف في برلين .
تجاهل هزيمة الفن الواقعي الألماني الذي كان يحظى بالإعجاب في لايبزيغ، إواستخدم صوراً مشعة تعج بالمجازات الشعرية والإشارات الرعوية. كررت أعماله التي استخدم فيها ألوان الخريف ببساطة طفولية تصوير أشكال منتصبة لنساء ريفيات ممشوقات القوام تحملن سلالاً دائرية على رؤوسهن، تعكس أجسادهن المتوحدة أشجار الصنوبر المظللة وأشجار الزيتون القريبة المتناثرة ما بين البيوت القروية الرقيقة. وهناك ما يبدو وكأنه تبادلية بصرية في رموز هزيمة ما بين التفاصيل العمودية الملتوية التي تمثّل الجسد والحجر، في إحالة على ما يبدو إلى الشعر الفولكلوري الفلسطيني، حيث الشجرة إنسان والوطن هو الزوجة الموعودة.
وبينما تذكِّر تشبيهات هزيمة البصرية بصور شعرية، تولّى فنانون فلسطينيون آخرون الدور التقليدي للشاعر السياسي فاستخدموا تعابير بصرية لإعادة صياغة الخطاب السياسي، من بينهم: إسماعيل شمّوط (1930 – 2006)، ومصطفى الحلاّج (1938– 2002)، وناجي العلي (1937– 1987). كبر ثلاثتهم في مخيمات للاجئين، فاستقر شمّوط في مخيم للاجئين في غزة بعد أن ارتحل مشياً على الأقدام من بيته في مدينة اللد ، وانتهى المطاف بالحلاّج والعلي في مخيمات للاجئين في دمشق وصيدا بعد أن تم تدمير قريتيهما سلمة والشجرة على التوالي. حصل شمّوط والحلاج على منح دراسية في مصر ، أمّا العلي، فقام بتعليم نفسه بنفسه.
من بين الثلاثة حصل شمّوط على أعلى تقدير رسمي لاستيعابه المجازات اللغوية التقليدية وقيامه بنقلها إلى صور بصرية، وأصبحت النسخ الملونة لرسوماته الوطنية المباشرة بمثابة أيقونات معلقة في أغلب البيوت والمؤسسات الفلسطينية في المخيمات وسواها. أما الطباعة الحجرية الخاصة بالحلاّج فكانت ذات سمة شخصية أكثر: أشكال سوريالية لرجال ونساء وبهائم تحكي بشكل خيالي سرديات مواربة. أما ناجي العلي فاستخدم الفن الساخر من خلال أسلوب الكاريكاتير السياسي الذي يزاوج بين الرسم والكلمات من أجل الوصول إلى الناس في كل العالم العربي. وانتهت سيرته المهنية الاستثنائية التي امتدت عبر خمس وعشرين عاماً فجأة حين تم اغتياله في شارع في مدينة لندن .
ملاحظة: هذا النص كتبه كمال بلاطة بعنوان “الفن” (Art)، في “موسوعة الفلسطينيين” (Encyclopedia of the Palestinians) التي حررها فيليب مطر (بالانكليزية)، والصادرة في نيويورك، عن دار “Facts On File, Inc.”، طبعة 2000- 2005، ص 81– 91.